أرض السرد: مدينة دبر ماركوس
عبد العزيز بركة ساكن
روائي سوداني
عندما بدأنا التفكير في مشروع ترجمة السرد الأثيوبي المكتوب باللغات المحلية إلى اللغة العربية واللغة الإنجليزية، قدم لي البروفسور ابيبي زقيAbebe Zegeye قائمة طويلة بأسماء أدباء اثيوبيا المشهورين الذين كتبوا بلغاتهم المحلية وهم يتصدرون المشهد الأدبي السردي في إثيوبيا، وكانت المفاجأة كبيرة عندما عرفتُ أن ثلثي القائمة تنتمي إلى اقليم واحد وهو امهرا- قوجام، بل أعظمهم من مدينة واحدة وهي مدينة دبروماركوس، وعلى رأس القائمة الروائي الاثيوبي الكبير أديس ألمايو Haddid Alemayehu (1910-2003) صاحب رواية love unto crypt، التي تُعتبر من الأدب الكلاسيكي الأثيوبي الحديث classic modern Ethiopian literature .
شدينا الرحال إلى مدينة دبر ماركوس: البروفسور ابيبي زقي والمحررة الأدبية الدكتورة راشيل برون وهي أيضا استاذة جامعية تعمل في جنوب افريقيا، وشخصي الضعيف، في عربة أرسلتها لنا جامعة دبرماركوس يمكنها تسلق الجبال مثل العنكبوت أو التيس الجبلي، حيث تُعرف اثيوبيا بالطرق الوعرة على الجبال الشاهقة كما لو مُعلَّقة على قبة السماء. كان الهدف من الرحلة هو العمل على تنصيب جامعة دبر ماركوس كجامعة مركزية للأدب الاثيوبي المكتوب باللغات المحلية، ودعم مركز حديث ألمايو للأدب والثقافة والبحث وتتبع سيرة السرد في قوجام – امهرا الذي ينتمي إليه معظم الأدباء الإثيوبيين الكبار مثل:
(love unto crypt) Haddis Alemayehu
Abe Gubegna (refusing to be born)
Beweketu Siyum (home without life)
Yeftaye Nigussie (you put me into difficulties)
Ayalneh Mulatu ( from the frying pan to fire)
Temesgen Gebrie (the drunk man of Gulele)
يتوسط المدينة تمثال الروائي حديث ألمايو شامخاً يحمل كتاباً بيده اليسرى وريشة بكفه اليمنى ويبدو أنيقا وجميلا وحياً في كل الأوقات وهو يحملق بعيداً في الفضاء الشاسع، وكأنه يبحث عن فكرة لم يستطع التقاطها أبداً. يتوسط التمثال سوقاً شعبيةً تضج بالحركة والباعة ودراجات “الباجاج” الهندية التي يفضل المواطنون استقلالها للتنقل عبر المدينة نسبة لسرعتها وقلة تكلفة اجرتها، وتحيط به الصرافات وسيارات وحافلات النقل المحلي والقومي تلك السيارات الجميلة المطلية بالألوان الحارة ومزينة بأحرف اللغة الجعيزية، وليس ببعيد عن النُصب تُوجد الفنادق الشعبية وبيوت الضيافة وحول سُوره وداخل فنائه يجلس بعض الشباب والشابات يرفهون عن أنفسهم وبعض عمال اليومية التعبى ينتظرون فرصة لعمل سريع يوفر لهم قوت يومهم.
بينما كانت العربة تعبر المساحة الشاسعة ما بين اديس أببا ودبر ماركوس، متسلقة الجبال وعابرة الوديان والغابات، كنت أبحث عن الرابط ما بين الأدب وهذا الاقليم الذي ينبت الشعراء والقصاصين كما ينبت العُشب وأشجار السنت. قمةُ الهضبة الأثيوبية في اقليم امهرا- قوجام مسطحة وتقل فيها الجبال الشاهقة ليس كما هو معتاد في كل أقاليم اثيوبيا الأخرى. يعتمد المواطنون في دخلهم على الرعي والزراعة ويُعتبر قوجام المصدر الأساسي للذرة (تيف) التي يُصنع منها الخبز الشعبي الأول في اثيوبيا وهي الانجيرا. الطقس بها يميل للبرودة وربما كان ذلك سر تسمية مدينة دبروماركوس قديما منكورر (menkorer) ويعني باللغة الجعيزية المكان الأكثر برودة، ولم يُغير إلى الاسم الحديث دبروماركوس إلا بعد بناء كنيسة القديس دبروماركوس في العام 1870. لم يكن هنالك شيئاً خاصاً يمكننا أن نقول إنه ساهم في أن تُخرج الأرض أدباءً، ولكن هنالك سبباً منطقياً وواقعيا، وهو مساهمة الكنائس والإرساليات التي دخلت مبكراً غرب وشمال إثيوبيا وساهمت في اتساع رقعة تعلم القراءة والكتابة بين المواطنين، ويُلاحظ أن معظم رواد السرد الاثيوبيين من أُسر متدينة وحظيت بقدر معقول من التعليم.
الملامح الأساسية للقرى الصغيرة التي تنتشر حول المدينة أقرب إلى المدن السودانية المجاورة لها، خاصة مدينة القضارف، ربما فيما يخص استخدام الزنك وحجارة الجرانيت الصلبة في البناء وانتشار العربات التي تجرها البغال والحصين وان مدينة القضارف قد حظيت بهجرة اثيوبية شاسعة خاصة في أوقات الحروب الأهلية وفي زمن حكم منقستو هايلو مريام، حيث كانت ملجأً لبعض المعارضين والسياسيين وأسرهم، ولكن أيضا يمكن ملاحظة انتشار بعض أشجار الاكيشيا نيلوتيكا وعُشب الكول وشُجيرات العُشر، كما ان التربة الطينية الحجرية تماثل ما هي عليه في مدينة القضارف، غير ذلك فهي مدينة اثيوبية مثلها مثل سائر المدن التي تقع على حوض النيل الازرق. بالنسبة للزائر المتعجل قد يمر عليها مر الكرام، فالمواطنون هادئون وفي غاية التهذيب، ولا يبادرون في عرض ما عندهم، ويستخدمون أصواتهم الهادئة المنخفضة في السلام والهمس لبعضهم البعض في لغاتهم المحلية المتعددة، أو بالأمهرا الشائعة في تلك النواحي. لا يوجد بالمدينة سياح ليس لأنه ليست هنالك معالم أثرية عظيمة أو أمكنة جاذبة لرواد الترفيه، ولكن ترتبط المسألة بالقوة الاعلامية لإدارة السياحة، كما ان مجاورتها لمدينتين كبيرتين تعتبران من معالم سياحة الآثار في اثيوبيا بل في افريقيا كلها جنوب الصحراء وهي قندر او مدينة القلاع وبحر دار التي بها 38 جزيرة تحتوي على معابد وكنائس قديمة وبها بُحيرة تانا الساحرة، ومدينة لالبيلا التي تحتضن التابوت السليماني عند كهف جبلي في اقدم كنيسة في افريقيا، جعل مدينة دبر ماركوس في ظل الاعلام السياحي، على الرغم انها تحتوي على واحدة من اجمل واعرق الكنائس في اثيوبيا وبها القصر الملكي ومبنى المحكمة الغريب وقوس النصر ومنابع النيل الازرق المجهولة لدى الكثيرين وهي مسقط رأس اشهر كتاب اثيوبيا حديث المايو، وهو بمثابة جيمس جويس بالنسبة لمدينة دبلن، وكافكا لمدينته براغ واستنبرغ لمدينة استكهولم ونجيب محفوظ لقاهرته القديمة وفكتور هوجو لمدينة بيزانصو، أقصد عندما يتحول كاتب المدينة لأحد معالمها السياحية ويصبح كنزا قومياً وملهما لأجال قادمة.
،،،،
سنواصل في الجزء الثاني
،،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،،