إثر الحرب… المجاعة تحصد أرواح ولا عزاء لنداءات الاستغاثة في السودان !
محمد أبكر موسى -كاتب سوداني
الراصد الإثيوبي -السودان
الثلاثاء 4 يونيو 2024
وصلت أزمة الاحتياج الإنسانيّBesic Human Needs crisis، أي النقص الحاد في تلبية الغذاء والدواء والماء على الأقل، إثر الحرب الطاحنة بين الجيش السودانيّ وميليشيا الدعم السريع، التي ظلت وسائل الإعلام وتقارير المنظمات والمبادرات الإنسانيّة والحقوقيّة تصرخ عنها، بضرورة التدخل العاجل بغية التصدي لها، والحدّ من مخاطرها قبل أن تستفحل مؤشراتها وتتجلى مظاهرها فتصير واقعاً يُصعب تدراكه، مراحلاً خطيرة وصادمة للغاية في البلاد، بل تمظّهّرت أكثر فأكثر، لدرجة وصولها إلى مستوى “المجاعة Famine”، على مستوى الإقليم الغربي(دارفور)؛ أكثر المناطق تأثراً بالحرب الدائرة، بشكلٍ فعليّ واضح؛ حيث تفيد “الأمم المتحدة UN” بوجود أكثر من 2.5 مليون نازح جديد فوق الأرقام السابقة التي يزخر الإقليم بها.
وبالتالي، أخيراً، وقعت ما كان متوقع، وما يُحذر منها، رغم المناشدات الكثيفة والنداءات المتكررة، المرفقة بصور بشعة ومشاهد غاية في البؤس واحصاءات مرعبة – والتي أبدعت وسائل الإعلام التي اهتمت بالمحنة في تصوير قتامتها بأسوأ ما يمكن من منظور perspective إنسانيّ وحقوقيّ – التي ما تزال تُطلق بين كل حين وآخر، وكلمّا تجلى مظهرًا من مظاهر المعاناة والشدّة. إنها “المجاعة Famine” بكل انيابها الكارثيّة ومحتواها المأساويّ تضرب بقوة أكثر المناطق المأزومة، وأكثرها ضعفًا وهشاشةFrailty and Vulnerable؛ حيث مخيمات النازحين واللاجئين، وذلك بسبب “التقاعس والتهاون بأرواح النازحين واللاجئين” على الاقل، كما تقول الادارة العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين في أحدث تقاريرها.
معاناة إضافيّة extra suffering فوق وضع النازحين واللاجئين الظرفيّ الإنسانيّ المحزن والمؤلم painful والهالك، ومأساة عبثيّة tragic جديدة تُضاف إلى ذاكرة هؤلاء ضحايا الحروب، المتخمة بالمآسي أصلًا، وتئن بفظاعةٍ من العنف المرّكّب complex violence الذي يتجسدّ بوضوح في استغلال النُخب Elites والأنظمة والحكومات التي تعاقبت على حُكم البلاد جهاز الدولة State لتحقيق أجندة سياسيّة وأهداف ايديولوجيّة واقتصاديّة، والتي افضت بشكلٍ مباشر إلى إنتاج حروب أهليّة(حرب 1955-2005 في الجنوب، حرب 2003 – 2020 في الغرب) ونزاعات قبليّة، وممارسة الفساد corruption بمختلف أشكاله ومستوياته على مستوى الدولة State والمجتمع، لدرجة أن ادخلت البلاد الآن في واحدةٍ من أسوأ وأعنف – هناك من باتوا يتناولون قشور الفول السودانيّ وفتاته الذي يُعطم البهائم بها، وأوراق الشجر، حفر بيوت النمل، طعاماً للنجاة من الموت فضلًا عن شرب مياه المستنقعات – الكوارث الإنسانيّة في تاريخ السودان المعاصر، وذلك على غرار المجاعة الأولى في السودان 1984، والاثيوبية 1983، الصوماليّة في 1992 و2001، الجنوبسودانية في 2017.
* إزمة إنسانيّة مُضاعفة:
تؤكد تقارير “الأمم المتحدة UN”، أن (60%) من التعداد الكلي للسُكان، بينهم 14 مليون طفل، في حاجة مباشرة للمساعدات الإنسانيّة، و(49.75%) من التعداد في حاجة ماسة للعون الغذائيّ. بينما تتجلى حالة “المجاعة” في كل أنحاء البلاد بنسب مختلفة؛ حيث نسبة المدنيين المتأثرين بالنقص الغذائي الحاد؛ 60% في ولاية غرب دارفور، 55% في ولاية الخرطوم، 48% في ولاية جنوب كردفان، 43% في ولاية كسلا، 31% في ولاية الجزيرة. مع الإشارة إلى أن الحدّ المطلوب لإعلان حالة المجاعة هو عند نسبة (20%) من السُكان.
ودعا “برنامج الأغذية العالمي WFP” الجميع إلى تضافر الجهود لأجل “وصول المساعدات الإنسانيّة دون قيود لدعم الأشخاص الذين يعانون من أعلى مستويات الجوع والمحاصرين في بؤر الحرب الساخنة”، وذلك في الوقت الذي “يعيش واحد من كل عشرة أشخاص في مستويات الطوارئ من الجوع Starvation في مناطق لا يمكنهم تلقي المساعدة فيها بسبب القيود المفروضة على الوصول والقتال المستمر”. وحذرت “لجنة الإنقاذ الدولية IRC”، في بيان سابق لها “من أن السودان يعاني من أزمة جوع حادة”، فيما صرخت “منظمة الأغذية والزراعة FAO ” في وجه العالم عن تفاقم أزمة الأمن الغذائيّ في السودان، وحثت الجميع على “اتخاذ إجراءات فوريّة وجماعيّة لتجنب كارثة إنسانيّة وشيكة” في البلاد.
وحملت تقارير “برنامج الأغذية العالمي WFP”، أن 95% من السودانيين لا يستطيعون تأمين وجبة وجبة كاملة في اليوم، وأن العائلات اضطرت إلى شرب مياه المستنقعات، وأن نصف السودانيين، أي أكثر من (24.8 مليون) باتوا يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بمن فيهم (18 مليون) يواجهون انعدام الأمن الغذائى الحاد، ومن بين هؤلاء قرابة (5 ملايين) على “شفا الكارثة”، وهو ثاني أسوأ تصنيف يعتمده البرنامج لحالات الطواريء بعد تصنيف المجاعة.
وقالت “اليونسيف UNICEF” أنه “قبل الأزمة كان السودان من أكثر الدول في العالم التي فيها سوء تغذية، حيث كان هناك أكثر من ثلاثة ملاين طفل يعانون بالفعل من سوء التغذية، منهم (611 ألفاً) يعانون من سوء التغذية الحاد ومن ضمنهم (50 ألفاً) بحاجة إلى رعاية علاجية مكثفة ومستمرة حتى يتحسن وضعهم، والأخطر، أن هناك (1700 طفل) من هؤلاء الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد، لديهم أيضاً مضاعفات صحية، وهم بحاجة إلى رعاية مستمرة على مدار الساعة”.
ويؤكد المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا لل”UNICEF”، والتي تعمل في السودان قبل أكثر من 27 عامًا، أنه “تشكّل هذه الحرب أزمة إنسانيّة فوق أزمة إنسانيّة أخرى، وأصبح لدينا الآن أزمة معقدة complex”، حيث “أن الوضع الإنساني كان كارثيًا حتى قبل الأزمة الحاليّة، حيث كان هناك (15.8 مليون) شخص في السودان بحاجة إلى مساعدات إنسانيّة، من ضمنهم (8.5 مليون) طفل، وأن (11 مليون) شخص بحاجة إلى خدمات المياه الصالحة للشرب والإصلاح البيئي، وأنه “يتلقى الأطفال في السودان مكملات غذائية لعلاج سوء التغذية”، هذا ناهيك عن حالة النساء الحوامل والمرضعات والأطفال ما دون السنتين، والذين هم بحاجة إلى حمية خاصة كي يبقوا بصحة جيدة، وأي نقص في المواد الأساسية Necessary Needs كالغذاء والدواء والماء سيعرضعهم إلى خطر مضاعف Extra Risks of status، فضلاً عن الضغوط النفسيّة Pressure الحادة التي تسببها الحرب والتي تتجسد في أصوات الرصاص وقصف المدافع والطيران، ودوي القنابل. تؤكد “اللجنة الدولية للصليب الأحمر ICRC” أن “النزاع دمر مرافق الرعاية الصحيّة في مناطق الحرب مما ترك الملايين دون الحصول على الرعاية الصحيّة الكافيّة”.
وقالت “منظمة الصحة العالمية WHO” ان “ما يقرب إلى (70٪) من المرافق الصحيّة باتت خارجة الخدمة وتعاني من نقص حاد في المعينات الصحيّة والادوية المنقذة للحياة، وهناك تزايد في تفشي الأمراض في ظل انقطاع خدمات الصحة العامة الأساسية، بما في ذلك مراقبة الأمراض، ووظائف مختبرات الصحة العامة، وفرق الاستجابة السريعة، ويفتقر حوالي (%65) من السكان إلى إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحيّة، كما أن ما بين (70 _ 80%) من المستشفيات في المناطق المتضررة من الحرب لم تعد تعمل”. وحيث تم الإبلاغ عن حوالي 10,500 حالة يشتبه بإصابتها بالكوليرا، بما في ذلك 292 حالة وفاة”. هذا كما تؤكد منظمة UNICEF” على أن “تعطيل التعليم أصبح يهدد بإخراج مستقبل (19 مليون) طفل child في سن الدراسة عن مساره التعليمي”.
* حقيقيّة المجاعة رغم تجاهلها:
يؤكد أحدث تقرير مفصل اصدرته “الادارة العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين” في العشرين من شهر مايو المنصرم، أن أزمة الاحتياجات الإنسانيّة داخل معسكرات النازحين باقليم دارفور بلغت مستوياتٍ خطيرة وكارثيّة للغاية. فيما تُبيّن مكتب الإدارة لمعسكر “كلما” (من أكبر مخيمات النزوح منذ حرب 2003 بالاقليم كمًا ونوعًا) الذي يقع شرقي مدينة نيالا، حاضرة ولاية جنوب دارفور، أن النقص الحاد في الغذاء والدواء والماء، أوصلت الإنسان السودانيّ في المعسكر إلى أزمةٍ إنسانيّةٍ مؤلمةٍ وصادمةٍ إلى حدٍ بعيد. حيث بلغت أزمة “المجاعة” ذروتها داخل المعسكر “حداً لم يسبق لها مثيل.. وفي أسوأ احصائيّة وفيات منذ تأسيسه”.
وحمل التقرير أنه “أودى الجوع بحياة (66 طفلاً) نتيجةً سوء التغذية وانعدام الأدوية الخاصة بالأطفال، كما بدأت تظهر حالات الشلل وسط الأطفال وكل أمراض الأطفال جراء فقدان التطعيم لعام كامل، كما فقدنا (38 من كبار السن) فقط في شهر واحد، بالإضافة لحالات وفيات متفرقة وسط فئات المجتمع الأخرى منها (6) حالات لوفيات الحوامل، كل ذلك بسبب انعدام الغذاء وفقدان فرص العمل بشكل كامل”. ومع تجدد مناشدتها “للأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، وكل العالم بالاستجابة السريعة لنداءاتها وإدخال المساعدات إلى معسكرات النازحين لقطع الطريق أمام سقوط أرواح الأبرياء بسبب المجاعة”، تتوقع ادارة النازحين أن “الأسوء من ذلك أن هذه الاحصائيّة مرشحة للارتفاع بصورةٍ كبيرة جدًا في غضون الأيام المقبلة في ظل عدم ظهور أي أمل لإدخال المساعدات”.
ومع رفض السلطات السودانيّة حتى الآن إعلان حالة “المجاعة” في البلاد – رغم واقعيّة الظاهرة وفق إحصاءات وتقارير ومشاهد من واقع الأمر، مؤشراتها – لأسباب ايديولوجيّة وأهداف سياسيّة واقتصاديّة، وحسب تقرير سابق لمنظمة “أطباء بلا حدود”، أن طفلًا واحدًا على الأقل يموت كل ساعتين فى “مخيم زمزم” للنازحين بولاية شمال دارفور بسبب النقص الحاد في الغذاء في المعسكر حيث يتواجد فيه قرابة 300 ألف نازح. وقبلًا أعلنت السلطات المحليّة في ولاية وسط دارفور، أن الولاية منطقة منكوبة بالمجاعة حيث يعاني عموم المواطنين فيها إن لم يكن جميعهم من نقص شديد وحاد في تلبية احتياجاتهم الاساسيّة الغذائيّة منها والطبيّة والمورد المائيّ على الأقل.
وهكذا، إن “المجاعة” حقيقة واقعة ظاهرة بكل تمظهراتها الفيزيائيّة والرمزيّة، وخاصةً اذا حاصرناها بمعايير النظام التصنيف الدوليّ المتكامل(IPC) الثلاثة رغم تقنيّتها، والذي أطلق عام 2004، وطُبق عليها، والتي تنحصر في: أولاً؛ أن يواجه ما لا يقل عن (20%) من الأسر في منطقةٍ معينةٍ نقصًا شديدًا في الغذاء، ثانيًا؛ أن يعاني أكثر من (30%) من الأطفال دون سن الخامسة في مجموعة العينة من سوء التغذية الحادّ، ثالثًا؛ أن يموت شخصان على الأقل من بين كل عشرة آلاف شخص يوميًا لأسبابٍ تتعلق بنقص الغذاء.
* الجوع كبطاقة ضغط وأداة سياسيّة:
رغم أن السودان يُلقب “بسلة غذاء” العالم منذ زمن بعيد بسبب تمتع البلاد بموارد وثروات طبيعيّة هائلة، كان قبل هذه الحرب واحدًا من بين ثلاثة سودانيّين في البلاد يعانون من سوء التغذيّة، وأن ثلث سكان السودان بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، وقد ارتفع العدد بعد الحرب إلى ما يقرب من (28 مليون) شخص وهي زيادة بنسبة (%57). وبالتالي هكذا، كيف يتخيل الوضع الإنسانيّ وسط حرب ضربت المورد السودانيّ بشريًّا وماديًّا بكامله في انهيارٍ شبه تام؟، إنها أكثر من كارثة إنسانيّة يستدعي الوقوف عندها بكل جديّةٍ ومسؤوليّةٍ وحس ضمير إنسانيّ عميق.
محليًا، ما زاد الوضع الإنسانيّ سوءًا وتعقيدًا، تسبب الحرب في إرهاق الاقتصاد السودانيّ بمختلف موارده ومصادره – الذي هو هشًا ومأزومًا من الأساس – بشكل أدى إلى تداعيه وانهياره بصورةٍ شبه كاملة. تسببت الحرب مثلاً في تناقص مساحة الأراضي المزروعة هذا 2023 إلى (37%) بالمقارنة مع الأعوام السابقة، فيما تناقصت المساحة المزروعة بالقمح بنسبة (70%) على الأقل. فبالاضافة إلى توقف عجلة الدخل المحليّ بمحدوديته وتوقف العمل الرسميّ للدولة في أكثر من خمس ولايات هي تعتبر من مرتكزات الاقتصاد (جنوب وغرب دارفور، الجزيرة، الخرطوم)، فقَد غالبية الشعب السودانيّ أموالهم ومدخراتهم وممتلكاتهم سواء بالسرقة والنهب أم بالتخريب والدمار والحرق الذي طال مساحات واسعة من مصادر الإنتاج وكسب المال مع فقدان موسمين زراعيْن. ويتوقع “صندوق النقد الدولي IMF” “أن ينخفض الناتج المحليّ الإجمالي الحقيقي للسودان بنسبة (18.3%) في العام 2024، ويقول البنك أنه “انكمش الاقتصاد السودانيّ بنسبة (12%) في العام 2023 أي اضعاف انكماش اقتصادات اليمن وسوريا؛ حيث أدى الحرب إلى توقف الإنتاج وتدهور الاقتصاد، وتدمير رأس المال البشري وقدرات الدولة”. وبالتالي كان ارتفاع أسعار السلع والخدمات والبضائع الحياتيّة فوق عرضها في السوق السوداء بالإضافة إلى صفريّة السيولة الماليّة مع ارتفاع معدل التضخم، والندرة الحادة في النقد الماليّ، من أهم التداعيات الكارثيّة للحرب على المواطن السودانيّ، والتي تجسدت بشكل أوضح وأسوأ في النقص الحاد في توفير الاحتياجات الضرورية الحياتيّة – إن هجوم ميليشيا الدعم السريع واحتلالها ولاية الجزيرة، أدى إلى تعطيل زراعة مليون فدان من المحاصيل الزراعيّة وتدمير البنية التحتية للصناعات الغذائيّة – والتي أفضت تلقائيًا إلى زيادة المعاناة الإنسانيّة، وإضعاف كارثيّ لمستوى المعيشة والتي هي صعبة ومزرية وقاهرة من الأساس مع استمرار انهيار الاقتصاد بشريًّا وماديًّا ومعنويًّا كلمّا بزّغ صباح يوم جديد، وازدادت أكثر فأكثر على المدنيين المتأثرين بالحرب كلمّا طال أمد الحرب.
وهكذا بقيَّ السودانيون يعايشون وضعاً “إنسانيّاً فارغاً” لا يُحسد عليه إطلاقاً، وعلى وجه الأخص من هم في مخيمات النزوح واللجوء بالخارج، مع استمرار استغلال طرفيّ الحرب “الوضع الإنسانيّ المأزوم”، وبالخصوص “حالة الجوع” التي يعانيها السودانيين كبطاقة ضغط في اللعبة، وكوسيلة سياسيّة لصناعة فرص ما لمكاسب ما؛ لان تخلق لهما موقفاً قوياً بها أو تقوّي بها موقفهما العسكري أو السياسي في معركتِهْما. وهو وضعٌ إنساني – وقد نُهبت كل مخازن وصناديق برنامج الأغذية العالميّ في كل ولايات دارفور حسب تقارير البرنامج، وقد شاهدتُ نهب مخازن البرنامج في ولاية جنوب دارفور نيالا – بالطبع ما شكّل سبباً بجانب إنتهاكات الحرب في نزوح في تسع ولايات، أكثر سبعة ملايين داخل البلاد، وفرار أكثر من مليوني شخص إلى الخارج حسب “منظمة الدوليّة للهجرة IOM” و”المفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR”. بل الصادم جداً، وحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانيّة أوتشا UNOCHA” في وقت سابق، “أن بين كل ثمانيّة نازح في العالم يوجد سوداني”. فيما صرّح “ديفيد ميليباند” الرئيس والمدير التنفيذي للجنة الدولية للإنقاذ IRC” علي صفحته في لينكدن في آواخر أبريل الماضي، أن “السودان، رقم (1) على قائمة مراقبة لجنة الإنقاذ الدولية هذا العام، وهو الآن أكبر أزمة نزوح في العالم”.
* العالم وادلجة العون الانسانيّ:
لماذا أغفل هذا “المجتمع الدولي” الجانب الإنسانيّ على الأقل في سياق الحرب السودانيّة؟. إنه بجانب تأثير كلا طرفين الحرب بأعمدة دعمها الإقليميّ والدولي وتوازانات النظام العالمي سياسيًا واقتصاديًّا، طغيان الصبغة السياسيّة (politicization of humanitarian Aid) والايدولوجيّة على هُوية قول “المجتمع الدولي” وفعله. ويظهر هذا الإدعاء بوضوح أكثر عند تتبع مسيرة الأزمة السورية، والحرب في غزة، واليمن، وأوكرانيا. وما نداء “الأمم المتحدة UN” للحصول على مبلغ إجمالي قدره (4.1 مليار دولار) لتلبية الاحتياجات العاجلة للمدنيين واللاجئين، والذي لم يدفع سوى أقل من ثلثه، إنما حالة تؤكد بوضوح وعجر وغياب الإرادة الدوليّة في إنقاذ السودانيين، ولا يعكس سوى العجز الماليّ “الزائف” الذي يحاول الغرب به تبرير ضعف حالة الاستجابة السريعة والمسؤولة للازمة. الامر بدا أن المباديء الإنسانية الأربعة السامية (الإنسانيّة، الحياد، عدم التحيز، والاستقلالية) التي تعارف الجميع على أن تحكم العمل الإنسانيّ وتلوّنه، لم تذهب أدراج السياسة ومعادلاتها فحسب، بل تكاد تفقده معانيه بشكل تام في سيرورة التعاون الدولي الإنسانيّ على أدراج ومكاتب منظومة الأمم المتحدة.
ولا يأتي هذا الاستسهال والتراخيّ القاسي لدرجة التجاهل للأمم المتحدة تجاه المحنة السودانيّة، إلا في سياق حقيقة أن المعونات الإنسانيّة “الغربيّة” والتي أغلبها توزع عبر وكالات ومنظمات المنظومة الأمميّة، والتي تُقدم للجنوب في لحظات ضعفها الإنسانيّ وكوارثها التي هي من صناعة الغربيين أصلًا بمؤسساتها الصناعيّة والتكنولوجيّة الضخمة والمتعددة الجنسيات، كانت وما تزال تتسم بالفساد، والنظرة الدونيّة، ومزاج عقليّة”الشمال العالمي”، البرادايم الأوروبيّ، فضلًا عن نزعة التواطيء مع الأنظمة الاستبداديّة والحكومات والجهات المدنيّة العميلة، لدرجة أن افسدت الأدلجة والتسيس (مأساة فنزويلا 2017) الحقل الإنسانيّ بشكل كبير وشوهتا صورته بشكل يكاد يفقده روحه بالكامل. وهو الأمر الذي ادى إلى أن نادى الكثيرون من قادة السلام وسعاة العدالة وبالخصوص من الجنوب العالمي، بضرورة إعادة ضبط reset (لأن استمرار ذلك قد يؤدي آجلًا وعاجلًا إلى خلق مزيد من العنف والصراعات المسلحة والنزاعات المميتة) هذا الحقل الحسّاس وإعادة ترتيبه من جديد بقواعد ومعايير جديدة أكثر إنصافًا fair وعدالة justice وعقلانيّة rational. فكم عارٌ جدًا أن يتم استغلال الجوع Starvation ومرض disease وشتات Diaspora شعوب بعنيها ومعاناتهم، على الأقل، في الظاهرة السياسيّة ومعادلاتها الصراعيّة، وتوازناتها الأيديولوجيّة والمذهبيّة.
* تساؤل في الخلاصة:
وهكذا مع دخول الحرب عامها الثانيّ وبدأت المجاعة تضرب ضحاياها victims بلا رحمة، بجانب تعامل المجتمع الدوليّ والإقليميّ غير المسوؤل، وغير الجدّي، غير المبرر تجاه الأزمة السودانيّة سياسيٍّا وإنسانيًّا ودبلوماسيًّا، ما مصير السودانيّين، وكيف يتشكّل تجاه محنتهم الإنسانيّة، وعلى وجه التخصيص معاناة من هم في مخيمات النزوح واللجوء – وهم يلكون الجحيم بشكلٍ مُضاعف – والذين بدأو يتساقطون إلى هاوية الموت والهلاك ليس لسببٍ سوى نقص الغذاء، وانعدام الأدوية وخدماتها، وندرة الماء؟.
،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،