محمد الشيخ حسين- كاتب سوداني
الراصد الإثيوبي -السودان
الخميس 25 مايو 2023
لا تقف المسافة في الممارسة الصحفية عند نقل الخبر أو غيره من أساليب المهنة. وقد تدخل الصحافة في الأحداث والمواجهات، لتصنع التاريخ بدلا من أن تقف عند مستوى وتكون جزءا من مسيرة الأوضاع.
مناسبة هذه المقدمة أن الزمــن السياسي السوداني الوطني خلال نصف قرن من الزمان قد حبل أكثر من مرة بمـولود اسمـه الانقلاب العسكري. هـذا المـولـد استدعاه الصحفي المرموق الأستاذ إدريس حسن عبر 264 صفحة احتواها كتابه (قصتي مع الانقلابات العسكرية).
ينتمي الأستاذ إدريس حسن الخرطومي المولد والنشأة، إلى جيل الصحفيين الذين شقوا طريقهم في مهنة النكد بأظافرهم، إذ أسهم التحاقه المبكر بخلوة الشيخ عبد الرحيم أبو القاسم في اشلاق البوليس بالسجانة وحفظه الربع الأخير من القرآن الكريم لاحقا في أن يصبح صحفيا مرموقا يكتب مقالاته بـ (نغمة الشعراء الفصاح).
غير أن ظروف العمل الصحفي هيأت للأستاذ إدريس حسن في أزمنة مختلفة أن يأخذ في سن مبكرة من الراحل عفان أحمد عمر صاحب مجلة (الشباب) عنفوانه الثوري، ومن الراحل رحمي محمد سليمان مؤسس جريدة (الأخبار) حميمته في التواصل مع القارئ والبساطة في الفكرة. وحين التحق الأستاذ إدريس حسن بكبرى مدارس الصحافة السودانية (الأيام) كان له موعدا مزدوجا بين عقلانية الراحل بشير محمد سعيد ونظره الراقي للأحداث، ثم دقة محجوب محمد صالح وانضباطه الشديد.
المؤكد أن مظهر الانقلاب العسكري لا يفصح عن كامل جوهره ومغزاه وحجمه، بل من الصعب جدا إجمال كل الجوانب الأساسية المتعلقة بالانقلاب العسكري في سطور قصيرة، لكن المهم هنا الإشارة إلى أن الأستاذ إدريس حسن قد كسر (تابو) تحريم الحديث حول هذا الموضوع وأطلق النقاش حوله وفتحه للحوار العام بإفادات جديدة بكونه أمرا لا مناص عنه.
الثابت أن القطاع العسكري يشكل في السودان على مر الأنظمة العصب الحساس والعمود الفقري، والنقاش حوله يجب أن يتم بمسؤولية. لكن مهنية الأستاذ إدريس حسن مكنته بحرفية عالية من تقليب بعض الصحفات التي تناولت بصورة مباشرة قصته مع انقلابات السودان منذ أن التقط عندما كان صبيا دون السادسة عشرة من عمره خبر استيلاء طيب الذكر الفريق إبراهيم عبود على السلطة قبل يومين من حدوثه، إلى أن عرف بعد أكثر من ثلاثين عاما أن الضابط عابدين الذي كان يحدثه هاتفيا في الأيام التي سبقت 30 يونيو 1989 عن خطورة الوضع واحتمال وقوع انقلاب عسكري، هو العميد عبد العزيز خالد.
إذا بدا لك أن كتاب (قصتي مع الانقلابات العسكرية) صحوة استثنائية في تاريخنا المعاصر، فذلك صحيح من جهة أن الأستاذ إدريس حسن، استطاع أن ينفض ينفض قليلا من التاريخ الذي يحمله على ظهره من حوادث وتجارب ومواقف كان هو شاهدها الأول على مر الأنظمة التي حكمت البلاد.
تكمل قصص الأستاذ إدريس حسن حبّات العقد مع الانقلابات العسكرية. وتدلّ على أنه بين أولئك الذين يظنون أن الذاكرة هي حافظة الفرد والناس معا، لذلك حيثما يحلق ساردا لقصصه، يشعر القارئ، أن حزمةً من الضوء تتلاشى في حزم أكبر تملأ الفضاء السياسي بالإفادات والشهادات المترعة بحكايات البطولة والخيانة.
وبهذه القصص يضيء الأستاذ إدريس حسن منطقة معتمة تتعلق بالانقلاب العسكري، وهذا باب نحن شحيحون جدا في الحديث عنه، ولعل المفارقة هنا أن مدبري الانقلاب العسكري قد يدخلون القصر ثوارا يحكمون البلاد والعباد أو يذهبون إلى مكان تنفيذ أحكام الإعدام لا عاصم لهم سوى رحمة رب العالمين.
حسب تعريف فيليب لوجون للسيرة الذاتية فإنها (حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص)، لكن الجديد هنا أن الأستاذ إدريس حسن يركز على سيرته الصحفية وعلى تاريخ شخصيته، حيث أصبح السارد هو البطل ومصدر الأحداث والمعلومات في رؤيته للحياة ومواقفه من قضايا المجتمع وتقلبات السياسة.
وليس المقصود عند الأستاذ إدريس حسن بعث سيرة الانقلابات على طريقة يومية التحري، بل يسرد في تواضع شديد قصته الشخصية مع الانقلابات معتمدا على ذاكرة حديدية عرف بها وسط معاصريه وتلاميذه، ولذا كان سرده للأحداث حسب تقديم الأستاذ فضل الله محمد للكتاب (سرد معايشة وشهادة عيان وبينات موثقة، ولم يكن في أقل القليل شهادة سماعية).
في باب الكتاب الأول يستعرض المؤلف الأجواء التي سبقت استيلاء الفريق إبراهيم عبود على السلطة في نوفمبر 1958م، بحسبان أنه أول (المارشات) العسكرية وليس أخرها، ثم يقدم قراءة متانية في تقرير لجنة التحقيق القضائي مع مدبري الانقلاب. وقد يكون من المفيد جدا للذين لم يعاصروا تلك الأحداث أن يتأملوا جيدا أفادات المؤلف في موقفين الأول: عن المعارضة السياسية التي استيقظت من نومها (متأخرة) والكلمة بين القوسين من عندي. والثاني: عن أكتوبر 1964 أو (ثورة أغصان النيم).
كنت اتخيل الانقلاب بشخوصه ورموزه وهتافاته أمام عيني! هذه جملة مفتاحية كتبها الأستاذ إدريس حسن عنوانا للفصل الثالث من الباب الثاني من (قصتي مع الانقلابات العسكرية)، المخصص لانقلاب 25 مايو 1969م. ومع انقلاب أو ثورة 25 مايو تبدأ قصة الأستاذ إدريس حسن الحقيقية مع الانقلابات العسكرية.
ويستغرق المؤلف في تفاصيل الطقس السياسي قبل وقوع انقلاب مايو، ويقدم إفادات جديدة حول وكر الأسلحة في امتداد الدرجة الثالثة وشهادات من الدرجة الأولى من الراحلين محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء والشريف حسين الهندي وزير المالية حول هذا الوكر.
على أن المهم أن قصة الأستاذ إدريس حسن الواقعية مع الانقلابات بدأت بانقلاب مايو. ويلفت نظرك هنا السرد المشوق الذي يمسك بتلابيب القارئ من السطر الأول لهاجس تخيل الانقلاب بشخوصه ورموزه وهتافاته أمام عيني الأستاذ إدريس حسن الذي لم يصدقه أحد إلى أن أنصفه الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري داخل سجن كوبر، عندما رأه معتقلا (مرحبا بالأستاذ إدريس حسن الذي حذرنا من الانقلاب وما صدقناه).
أما قصة الأستاذ إدريس حسن مع انقلاب 19 يوليو 1971، فقد بدأت عندما قادته الصدفة إلى حضور محاكمة الأستاذ عبد الخالق محجوب التى كانت أشبه بالمسرحية الدرامية التى تنهمر فيها الدموع، حيث كان عبد الخالق فيها أكثر ثباتا من الذين حاكموه.
وفي ثنايا القصة إفادات عن هذا الانقلاب تتطابق إفادات قدمها الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه (زيارة جديدة للتاريخ)، خلاصتها أن تداعيات انقلاب 19 يوليو 1971 كانت واحدة من عشرة أسباب أدت لتدهور العلاقات العربية السوفيتية، وهذا مدخل جديد ومفيد لنقل أحداث الانقلاب من يومية التحري إلى رحاب التاريخ.
الصحافة كما يعرّفها الأستاذ إدريس حسن حامية للديموقراطية، ومن دون صحافة حرة لا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية، وبهذا الفهم تمضي فصول قصته مع انقلابات السودان في ملحمة اهتم فيها بتدوين تجاربه الثرة وفتوحاته الكثر في دهاليز الانقلابات العسكرية، وكأني به قد افترش مساحة واسعة من حوش منزل الأسرة القديم في ديوم الخرطوم التي ما برحت يقاوم الحياة.
في آخر السطر، بكتاب (قصتي مع الانقلابات العسكرية) انحاز الأستاذ إدريس حسن إلى جيل من الصحافيين الذين كسروا الحواجز وصنعوا مجد مهنة الصحافة السودانية التي أصبحت في عصرهم المقياس الذي تقاس به المهنة، إما لجهة حريتها ومهنيتها أو لجهة ريادتها، وربنا يجزيه عن هذا الجهد كل خير، والكتاب جدير بالقراءة والاقتناء.
،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،