بعض ذكرياتى عملى الخلوى الجيولوجى فى جنوب جبال البحر الاحمر السودانية 

ابراهيم شداد -إثيو-سودانى 

الراصد الإثيوبي – تنزانيا 

السبت 4 فبراير  2023
زرت مدينة طوكر عدة مرات خلال عملى الجيولوجى فى جنوب جبال البحر الاحمر لمدة ١٦ عاما فى الفترة من ١٩٨٠ الى ١٩٩٦ قضيتها حجارى جارى ككلب الحر مخرطا للصخور ومنقبا ومكتشفا للمعادن. وقد أخذت صورا تذكارية لطوكر بمبانيها الطينية العتيقة والمبلطة بروث الأبقار وشوارعها الفسيحة التى تزاحم فيها المواشى من أبقار وأبل سكان طوكر من البشر. والشوارع العريضة
والفسيحة باتجاه جنوب-شمال لتكون مسارات للاعاصير الترابية والمعروفة بالعتبيد والهبباى كأنها أسماء الجن لقسوتها فى الالتفاف حول كل شئ لدرجة اضطرار السكان للأكل وهم مغطين وجوههم حتى لا تدخل الأتربه حدقات العيون والأنوف والافواه.
ولا أنسى معسكراتى الخلوية وخاصة فى ميناء ترنكتات وهى المحطة القديمة لخط السكة حديد والذى كان ينقل قطن طوكر قصير التيلة الى بورسودان للتصدير الى مصانع النسيج فى لانكشير بانجلترا. واذكر ان آخر ناظر محطة لسكة حديد ترنكتات هو المرحوم سعيد دياب جد زوجتى وقد شاهدته فى شيخوخته وقد بلغ من العمر عتيا فى بيت ابنه المرحوم دياب سعيد دياب قطب حزب الاتحادي الديمقراطى واحد الرؤساء السابقين لنادى حى العرب سكورته.
مدينة طوكر الريفية تتمازج فيها اعراق البجا وبخاصة الجميلاب والبنى عامر مع الوافدين من قبائل النيل الشمالى والسوياسه (نسبة للسويس) والاتراك وقبائل الفولانى من الغرب الافريقى والرشايده آخر القبائل العربية نزوحا الى البر السودانى والارترى. وتقع طوكر فى قلب دلتا نهر بركة الموسمى الذى يفيض من تجمع الأمطار فى سهل ادوبحا بشمال غرب ارتريا وتغذيه روافد موسمية كثيرة بداخل الاراضى السودانية اكبرها خور أوسر بمعنى (القربة) لغزارة سيوله المنحدرة نحو دلتا طوكر. وكان سكان طوكر المزارعون والتجار فى رغد من العيش من انتاج القطن الوفير فى الدلتا الخصبة والمتجددة خصوبتها سنويا بفعل الطمى المنجرف مع السيول المنهمرة من المرتفعات الجبلية. ويحكى عن بطر بعض سكان طوكر أنهم قالوا: لو توقف تدفق السيول الى الدلتا فنسقيها من البيرة!

وهذه الدلتا الزراعية لها ثروات جيولوجية جمة من ترسبات الرمال السوداء فى ساحل ترنكتات، بالاضافة الى احتواء دلتا طوكر على معظم آبار النفط المحفورة للاستكشاف بواسطة شركة اجب منذ عهد حكومة عبود ومن بعدها بواسطة شركة Texas Western فى عهد المرحوم زميلنا الجيولوجى شريف التهامى خلال حكم مايو لنميرى. تركز حفر آبار الاستكشاف فى الجرف القارى لدلتا طوكر حيث اكتشف مخزون قدر مبدئيا بنصف بليون برميل من الغاز الطبيعى. وقد تحول النفط السائل فى هذا الحوض الى غاز نتيجة الحرارة الارضيّة المنبعثة من مكامنها تحت البحر بفعل النشاط التكتونى لفتق البحر الاحمر. وقد كتبت ونشرت فى عام ٢٠٠٤م فى المجلة العلمية للشبكة البينية الاسلامية للعلوم ISNET وهى ذراع علمى لمنظمة المؤتمر الاسلامى مقالا علميا باستخدام بعض نظم وسائل الاستشعار عن بعد فى تفسير صخرى وتركيبى لوجود مكامن الغاز الطبيعى فى الجرف البحرى لدلتا طوكر وقارنته من الناحية التكتونية بدلتا حوض بنيو للنفط فى نيجيريا.
Shaddad, I.A.I., July 2004: Structural Lineament Analysis of Large Format Camera Imagery Covering the Petroliferous Tokar Delta, Red Sea Hills Sudan; Inter-Islamic Network on Space Science and Technology (ISNET) Journal of Space Sciences and Technology, Volume 1 No.1, 2004. p. 7–12.
وبعض المراسي البحرية فى الساحل لها تاريخ عريق وخاصة ميناء عقيق حسب بحثى فى التاريخ هو المرسي الذى عبر اليه الصحابة رضوان الله عليهم بالسنبوك من مرسى الليث التاريخى جنوب جدة فى ساحل الحجاز وهو مقابل لمرسى عقيق فى البر الافريقى. وقد كان مرسي الليث مشهورا فى التاريخ بالسنابيك والمراكب التى تربطه بتجارة اليمن وتجارة أكسوم وبقية افريقيا عبر مرسي عقيق. ومن مرسي عقيق تابع الصحابة رضوان الله عليهم الامتداد الجنوبى لطريق الحج المسيحى الى مملكة اكسوم أرض الصدق والتى أمر الرسول ﷺ بعض اتباعه فى فجر الاسلام اللجؤ اليها عند النجاشي أصمحه بن أبجر أعلم أهل زمانه بالمسيحية الحقة والذى لا يظلم عنده أحد.
وكان طريق الحج المسيحى يربط اكسوم ببيت المقدس عبر مراحل الطريق والتى تبقت أطلال معالم طوابيها المصمته والمبنية على طراز المعمار الاكسومى فى عهده المسيحى. وكان هذا الطريق التاريخى يمر بعدة طوابى حجرية مصمته ومتباعدة تمثل مراحل هذا الطريق التاريخى فى الاراضى السودانية بدأ بطاببة ملتقى خورى قمروتا وسيماب ليكونا خور عيدب الى سواكن ومحمد قول وحلايب وعيذاب او سواكن عجوز (ابورمادا الحاليّه) وراس بناس فى مصر الى سيناء ومن ثم بيت المقدس. . وتعرضت هذه الطوابى التاريخية الى محنة التدمير جزئيا او كليا نتيجة حمى البحث عن الذهب والكنوز بداخلها والتى اجتاحت السودان خلال الثلاثة عقود الاخيرة.
وقد شيدت هذه الطوابى الاكسومية على طول ساحل البحر الاحمر لبلاد البجه فى بدايات عهد مملكة اكسوم المسيحية لتكون معالم ومحطات فى مراحل طريق الحج المسيحي من أكسوم الى بيت المقدس. وبدأ تشييد هذه الطوابى الاكسومية بعد ان تنصر ملك أكسوم أبرهه (ابراهيم) وتسميه باسم عيسانا بمعنى العيسوى (وقد حرفت نطقا الى عيزانا) على يد المبشر فيرمنتوس السيريانى. وقد غزا عيزانا مملكة مروى النوبية واخضع النوبا السود سكان النيل والنوبا الحمر البجا سكان جبال البحر الاحمر وتحولت بلاد النوبا من عبادة تأليه الفراعنة الى رحاب المسيحية على مذهب اليعاقبة الارثودكس. وارتبطت أكسوم بالكنيسة القبطية فى مصر والتى عينت المبشر فيرمنتوس اول مطران على كنيسة أكسوم المسيحية فى ارض الحبشة. وقد أثرى هذا الطريق البرى والتاريخى مساهمة مملكة أكسوم المسيحية بالهدايا الموجودة فى رواق اكسوم فى بيت المقدس.
وقد رسمت مسار هذا الطريق البرى للحج المسيحى واضحت نقطة التقائه بالطريق البرى عند مرسي ابورمادا للحج الاسلامى والذى ربط انذاك الأندلس قبل سقوطها ودوّل المغرب الاسلامى عبر بئر شنقيط بغرب موريتانيا الى الفسطاط بمصر ثم مرسى ابورمادا لعبور البحر الاحمر لبر جزيرة العرب والحرمين الشريفين. وقد لاحظت وجود مقابر وأضرحة كثيرة منتشرة على طول مسار هذا الطريق الصحراوى لاعلام المشايخ وبخاصة الشيخ ابو الحسن الشاذلى وجماعة اخرين وافتهم المنية خلال سلوك هذا الطريق البرى. وزرت ميدانيا اجزاء من هذا الطريق وقد أوضحت كل هذه المعلومات فى خرطتى الملاحية لشمال السودان والتى كانت تمثل سدس مساحته قبل انفصال الجنوب.
Shaddad, I. A. I., 1992: New Navigation Map Scale 1:1000 000 for the Area between the Nile and Red Sea [16° 00″-23° 00″ N] and [30° 00″ – 39° 00″E], unpublished work.
وترتب على خرطتى الملاحية هذه ان منحتنى انذاك موسسة DAAD الألمانية منحة بحثية لمدة ٦ أشهر ضمن مشروع ابحاث الجامعات الألمانية فى المناطق الجافة SFB متضمنا الصومال والسودان ومصر قضيتها فى اثراء خرطتى ما بين جامعة Technical University of Berlin و جامعة Free University of Berlin

،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،