عاشق الصحراء ومدرب رجال الفضاء …فاروق الباز ودفء القرية المصرية
محمد الشيخ حسين
صحفي وكاتب سوداني
الراصد الإثيوبي – الخرطوم
الثلاثاء 9 نوفمبر 2022
يخلق البروفيسور فاروق الباز جوا من ذلك الشعور بالدفء الذي يشعر به الإنسان في أيام الطفولة لدى سماع القصص التي تخلق في النفس ذلك الخدر اللذيذ. ولعل دفء القرية المصرية المغروس في دواخله كان ملهمه الأول حين نجح في تحديد مواقع هبوط للمركبات الفضائية على سطح القمر.
وعندما التقيت البروفيسور الباز في ردهات جامعة المستقبل في الخرطوم، كان هو نفس الشاب الأسمر الذي يحمل على وجهه كل الملامح المصرية الأصيلة، بعد أكثر من أربعين عاما قضاها مهاجرا في أمريكا، تسمع بوضوح اللهجة المصرية الصميمة بين حروف كلماته.
واعترافا بتفوقه وعبقريته أطلقوا عليه في أمريكا لقب (الملك)، لكن مع هذا الاعتراف الأمريكي الكبير، تشعر أن الباز، مازال هو الفلاح البسيط الذي بنى مصر.
ورغم ما تشعر به في روحه من البساطة، إلا أن البروفيسور فاروق الباز مدير مركز أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن الأمريكية، لا يمل البتة من تذكيرنا بجماليات الانتماء إلى هذه الأمة، ولعل أبلغ ما قيل عن هذا النوع من الانتماء، كان على لسان رائد الفضاء ألفريد وردن في رحلة أبولّلو حينما وصل إلى القمر، (بعد تدريبات الملك، أشعر أنني جئت هنا من قبل).
وحين وقفت مع البروفيسور فاروق الباز في حديقة جامعة المستقبل المصممة على شكل جهاز كمبيوتر كان الدجي يحاول أن يخفي ضوء النجيمات البعيدة، كان الباز مثل فلاح مصري جالس على الدكة ويحكي قصة الحياة. يقول الباز: علاقتي بالسودان قديمة بعضها من الأبحاث والدراسات وبعضها مع طلاب وباحثين وبعضها مع أصدقاء وزملاء عمل، إلا أن علاقتي المباشرة بهذه المدينة الجميلة وهذا الشعب العظيم بدأت مع مطلع العقد الأخير من القرن الماضي حين زارني بمكتبي في جامعة بوسطن فتى أسمر الملامح غض الإهاب وكان يحمل مشروع كلية لدراسات الحاسبات الآلية (كمبيوتر مان).
ويستطرد الباز: عندما أعود بذاكرتي إلى ذلك اللقاء، يبدو واضحا كيف كان زائري الدكتور أبو بكر مصطفى محمد خير صاحب الفكرة ومؤسس كلية كمبيوتر مان متأكدا من فكرته وواثقا من نجاح مشروعه، خاصة رغبته في تأسيس كلية رائدة في بلورة وتطبيق الرؤى الحديثة في مجال التعليم العالي عبر الإسهام الفاعل في نشر المعرفة بإدخال العلوم المعاصرة والتقانة المتطورة في مناهجها الدراسية. وهكذا استمرت علاقتي مع الرجل المتميز د. أبو بكر مصطفى وصرت عضوا في مجلس أمناء كلية كمبيوتر مان، ثم عضوا في مجلس أمناء جامعة المستقبل بعد ترفيع الكلية إلى جامعة. أما مساهمتي فهي نشاط علمي زاخر بالمحاضرات والزيارات العلمية والأساتذة الزائرين من زملائي وتلاميذي للجامعة. وفي لقائي الأخير مع مركز أبحاث الفضاء في جامعة المستقبل جرى نقاش عميق حول ضرورة أن يساهم المركز في تنفيذ مشاريع علمية في السودان والدول المجاورة. وتتضمن الصلة أيضا السعي الدوؤب والمستمر لربط الباحثين بين شمال وجنوب الوادي عبر جامعة المستقبل.
مجرد لمحة تكشف عن طبيعة معدن الإنسان، وأخلاقه، وتربيته، لكن الدقائق القليلة مع البروفيسور فاروق الباز جعلتني أزداد احتراما لهذا العالم الخلوق صاحب المعدن الأصيل والتربية الراقية.
النشأة الأولى
حياة البروفيسور الباز قصة بسيطة في تفاصيلها، لكنها عميقة في مدلولاتها حين تحكي إرادة الإنسان في تحقيق ما يصبو إليه حتى الصعود إلى القمر.
ولد فاروق في الأول من يناير عام 1938م من أسرة بسيطة الحال في قرية طوخ الأقلام من قرى السنبلاوين في محافظة الدقهلية، شجعه الوالدان على التدرج في مراحل التعليم المختلفة، حيث كانا يؤمنان دائما بقدراته ونبوغه. كان والده أول من حصل على التعليم الأزهري في قريته. وكانت أمه رغم بساطتها خير معين له في اتخاذ قراراته المصيرية، إذ كانت تمتلك ذكاء فطريا على حد وصف فاروق لها.
كانت أمنيته أن يكون طبيبا جراحا للمخ، ولكن أمنيته باءت بالفشل حينما لم تتح درجة مجموعه الالتحاق بكلية الطب، فاضطر بروح أقل حماسة إلى الالتحاق بكلية العلوم في جامعة عين شمس. واختارها دون كلية طب الأسنان، لأنها كانت أقرب إلى مسكنه، ويستغرق المشي إليها ساعة ونصف الساعة، وهو ما يساعده على توفير تكلفة التنقل بالمواصلات العامة.
كان الباز يهوى منذ الصغر الذهاب إلى الرحلات الكشفية وجمع العينات الصخرية، ومع ذلك لم يسمع عن علم الجيولوجيا، منبع نبوغه، إلا حينما التحق بكلية العلوم.
وحصل على شهادة البكالوريوس (كيمياء – جيولوجيا) في عام 1958م، وقام بتدريس مادة الجيولوجيا بجامعة أسيوط حتى عام 1960م، حينما حصل على منحة لاستكمال دراسته بالولايات المتحدة.
ونال شهادة الماجستير في الجيولوجيا عام 1961م من معهد علم المعادن بجامعة ميسوري الأمريكية. ونال شهادة الدكتوراه في عام 1964م وتخصص في التكنولوجيا الاقتصادية. واستطاع خلال هذه الفترة زيارة المناجم الهامة، وجمع آلاف العيّنات من بلاد العالم التي زارها.
رحلة العودة
بعد ثمانية أعوام من دراسة الجيولوجيا في أمريكا، عاد الباز إلى مصر. وكان خلال فترة إقامته في أمريكا قد جمع عينات من الصخور والحجارة من كافة أنحاء بلغ وزنها نحو خمسة أطنان، وعاد بها إلى مصر، وكله أمل في إنشاء معهد عال للجيولوجيا في بلده الحبيب، إلا أن المفاجأة كانت في انتظاره (عليك استلام العمل كمدرس للكيمياء في المعهد العالي بالسويس).
ورغم صدمته واندهاشه، لم يفقد الأمل وانطلق إلى المسؤولين بالوزارة لكي يسمعه أحد، ولكن جهوده باءت بالفشل، وبعد ثلاثة أشهر من المثابرة اضطر إلى الذهاب لاستلام عمله في هذا المعهد، أملا منه في أن يسمعه أحد بعد استلام وظيفته الجديدة. ولكنه في السويس التقى بأحد زملائه الفيزيائيين، وكان حاصلا على الهندسة النووية من روسيا، واضطر إلى تدريس مادة الصوت والضوء، حيث نصحه بعدم استلام عمله حتى لا يفقد كل شيء. فسحب الباز أوراقه بعد دقائق من تقديمها إلى إدارة المعهد.
طريق الهجرة
(لم أتخيل يوما أن أهاجر بعيدا عن بلدي)، هكذا نطقها البروفيسور الباز، وهو يحكي قصة هجرته، التي بدأت في ديسمبر من عام 1966م. وبعد سنة من المعاناة، قرّر أن يسافر سرا إلى أمريكا خوفا من الظروف السياسية الشائكة التي كانت في مصر آنذاك.
وفي أمريكا لم يكن الأمر سهلا، فقد خاض البروفيسور الباز تجربة شاقة للبحث عن عمل، ونظرا لوصوله بعد بدء العام الدراسي، فلم تقبله أي جامعة من الجامعات، فشرع في تقديم طلبات الالتحاق إلى أكثر من 100 شركة في عددها. وقبع في الانتظار إلى أن بعثت له وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) التي كانت تطلب جيولوجيين متخصصين في القمر، بخطاب الموافقة على طلب التحاقه.
وأثارت موافقة (ناسا) دهشة البروفيسور الباز، ولعل المفارقة هنا، أنه لم يكن يعلم شيئا عن جيولوجيا القمر، وهكذا دخل (ناسا)، وهو لا يعلم أنه سيكون له فيها شأن.
وحسب عبارة البروفيسور الباز: قد وفقني الله في أحد المؤتمرات الجيولوجية، والتي تحدث فيها علماء القمر عن فوهاته ومنخفضاته وجباله. ولم أفهم شيئا طيلة ثلاثة أيام متواصلة.
ويتابع البروفيسور الباز حديثه (عندما تساءلت عن كتاب يجمع هذه التضاريس، كانت الأجابة: لا حاجة لنا إلى أي كتاب فنحن نعرف كل شيء عنه. وحفزتني الإجابة إلى البحث والمعرفة، ودخلت المكتبة التي ضجت بالصور القمرية التي يعلوها التراب، وعكفت على دراسة 4322 صورة طيلة ثلاثة أشهر كاملة، وتوصلت إلى معلومات متميزة).
16 مكانا
اكتشف البروفيسور الباز أن هناك ما يقرب من 16 مكانا يصلح للهبوط فوق القمر، وفي المؤتمر الثاني الذي حضره، كان البروفيسور الباز على المنصة يعرض ما توصل إليه وسط تساؤل الحاضرين عن ماهيته، حتى إن العالِم الذي قال له من قبل نحن نعرف كل شيء عن القمر وقف وقال: اكتشفت الآن أننا كنا لا نعرف شيئا عن القمر.
وهكذا دخل البروفيسور الباز تاريخ (ناسا)، وأوكلت له مهمتين رئيسيتين في أول رحلة لهبوط الإنسان على سطح القمر: الأولى هي اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر، والثانية تدريب طاقم رواد الفضاء على وصف القمر بطريقة جيولوجية علمية، وجمع العينات المطلوبة وتصويره بالأجهزة الحديثة المصاحبة.
وتقديرا لأستاذه، بعث رائد الفضاء نيل آرمسترونغ أول إنسان هبط على القمر، برسالة إلى الأرض باللغة العربية، واصطحب معه ورقة مكتوب عليها سورة الفاتحة ودعاء من البروفيسور الباز تيمنا منه بالنجاح والتوفيق.
بعد نجاح مهمة أبوللو سطع نجم البروفيسور الباز، بعد مشاركته فيها من عام 1967م إلى 1972م، وبدأ اسمه يأخذ مكانا في الصحافة العلمية والتلفزيون الأمريكي.
وبعد انتهاء مهمة أبوللو، شارك مع معهد Smithsonian بواشنطن في إقامة وإدارة مركز أبحاث الكون في المتحف الدولي للفضاء.
وفي عام 1973م عمل كرئيس الملاحظة الكونية والتصوير في مشروع أبولو ـ سيوز الذي قام بأول مهمة أمريكية سوفييتية في يوليو 1975م.
وفي عام 1986م انضم إلى جامعة بوسطن، مركز الاستشعار عن بعد باستخدام تكنولوجيا الفضاء في مجالات الجيولوجيا، الجغرافيا. وقد طوَّر نظام الاستشعار عن بعد في اكتشاف بعض الآثار المصرية.
عاشق الصحراء
اهتم البروفيسور الباز بعد ذلك بدراسة الصحراء، وخلال 25 عاما قضاها في هذا المجال حتى الآن، اهتم بتصوير المناطق الجافة خاصة في صحراء شمال أفريقيا، وجمع معلوماته من خلال زياراته لكل الصحاري الأساسية حول العالم. كان أكثرها تميزا زيارته للصحراء الشمالية الغربية في الصين، بعد تطبيع العلاقات مع أمريكا عام 1979م. وبسبب أبحاثه انتخب زميلا للمعهد الأمريكي لتقدم العلوم AAAS
تميز البروفيسور الباز باستخدام التقنيات الحديثة في دراسة الصحراء، حيث استخدمها أولا في الصحراء الغربية بمصر، ثم صحراء الكويت، قطر، الإمارات، وغيرها. وقد فندت أبحاثه المعلومات السابقة بأن الصحراء كانت من نتائج فعل الإنسان، وأثبت أنها تطور طبيعي للتغيرات المناخية للأرض.
محطات صغيرة
رحلة البروفيسور الباز العلمية والعملية طويلة وممتدة وقد يصعب حصرها في هذا الحيز، ونستعرض أهم المحطات الصغيرة في هذه الرحلة.
* اختار الرئيس المصري أنور السادات البروفيسور الباز مستشارا علميا لحكومته عام 1978م –1981م، وكلفه بمهمة اختيار أماكن صحراوية تصلح لإقامة مشروعات عمرانية جديدة. وقد شرح بطريقة علمية دقيقة كيفية الاستفادة من الموارد الطبيعية لبلده مصر. ودعا إلى أهمية دراسة المياه الجوفية، والتي يهدر منها الكثير في البحار والمحيطات دون استخدام، وطبَّق التكنولوجيا الفضائية لدراستها ودراسة مسارات البحيرات الناضبة.
* نادى بقمر خاص متخصص للصحراء، لأن كل الصور الفضائية المعمول بها إنما تكون لدراسة الغطاء النباتي، ولكوننا أولى الناس بدراسة أراضينا الصحراوية من الغرب الذي لا يمتلك شيئا منها. وقد عمل على إنشاء مراكز تدرس التصوير الفضائي والاستشعار عن بعد في كل من قطر، مصر، السعودية والإمارات.
* أنتخب البروفيسور الباز كعضو أو مبعوث أو رئيس لما يقرب من 40 من المعاهد والمجالس واللجان، منها انتخابه مبعوثا لأكاديمية العالم الثالث للعلوم TWAS في 1985م، وأصبح عضوا في مجلسها الاستشاري في 1997م، وعضوا في مجلس العلوم والتكنولوجيا الفضائية، ورئيسا لمؤسسة الحفاظ على الآثار المصرية، وعضوا في المركز الدولي للفيزياء الأكاديمية في اليونسكو، مبعوث الأكاديمية الأفريقية للعلوم، زميل الأكاديمية الإسلامية للعلوم بباكستان، وعضوا مؤسسا في الأكاديمية العربية للعلوم بلبنان.. ورئيسا للجمعية العربية لأبحاث الصحراء.
* كتب البروفيسور الباز 12 كتابا، منها: أبوللو فوق القمر، الصحراء والأراضي الجافة، حرب الخليج والبيئة، أطلس لصور الأقمار الصناعية للكويت. ويشارك في المجالس الاستشارية لعدة مجلات علمية عالمية.
* كتب مقالات عديدة، وأجرى لقاءات كثيرة عن قصة حياته وصلت إلى الستين، منها النجوم المصرية في السماء، من الأهرام إلى القمر، الفتى الفلاح فوق القمر، وغيرها.
* حصل البروفيسور الباز على ما يقرب من 31 جائزة، نذكر منها على سبيل المثال: جائزة إنجاز أبوللو، الميدالية المميزة للعلوم، جائزة تدريب فريق العمل من ناسا، جائزة فريق علم القمريات، جائزة فريق العمل في مشروع أبوللو الأمريكي السوفييتي، جائزة ميريت من الدرجة الأولى من الرئيس أنور السادات، جائزة الباب الذهبي من المعهد الدولي في بوسطن، الابن المميز من محافظة الدقهلية، وقد سمّيت مدرسته الابتدائية باسمه.
* أنشأت الجمعية الجيولوجية في أمريكا جائزة سنوية باسمه أطلق عليها (جائزة فاروق الباز لأبحاث الصحراء).
* تبلغ أوراق البروفيسور الباز العلمية المنشورة إلى ما يقرب من 540 ورقة علمية، سواء قام بها وحيدا أو بمشاركة آخرين، ويشرف على العديد من رسائل الدكتوراه.
ذيل القائمة
قبل أن الملم أوراقي بدا لي البروفيسور الباز حزينا، حينما أشار إلى أن الحكومات العربية تأتي في ذيل البلاد النامية. ويرجع ذلك إلى عدم تقدير العلم في بلادنا العربية، وعدم إفساح المجال للإبداع الإنساني.
ويقول وهو يكاد يصرخ: إن الدول المتقدمة تنفق ما لا يقل عن 2 في المائة من دخلها القومي على البحث العلمي. ونحن ننفق أقل من نصف في المائة، بينما ننفق 98 في المائة من هذه الأموال على المرتبات والأعباء الإدارية. ويظهر استغرابه من الدول العربية التي لا تعلم إلى أي مدى قد يفيدها العلم في كل النواحي والمجالات الأخرى.
تلك ملامح من تجربة البروفيسور الباز الذي جال العالم شرقا وغربا، وحاضر في العديد من المراكز البحثية والجامعات أحبَّ الرحلات الكشفية، وجمع العيِّنات الصخرية منذ الصغر. وهو يجيد اللغتين العربية والإنجليزية بطلاقة، كما يتحدث بعضا من الألمانية والفرنسية والأسبانية.
يتهم البعض البروفيسور الباز بأنه شديد الثقة بنفسه، ولكنه دائما يردد: المعرفة تولِّد الثقة، أنا لا أقول شيئا إلا بعد دراسته جيدا.
على الصعيد الأسري تزوج البروفيسور الباز من أمريكية، وهو أب لبنات أربعة هن: منيرة، ثريا، كريمة، وفيروز، وجد لثلاثة من الأحفاد.
في ختام حواره كانت آخر جملة إنقاذها لي البروفيسور الباز: أحمد الله سبحانه وتعالى أنني رأيت أشياء لم يرها كثيرون مثلي.
تلك كانت رحلة العلامة فاروق الباز ببداياته وقفزاته وأحلامه، وكم من أمثاله الذين نبغوا وأبدعوا، ولكن خارج ديارهم.
،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،