مقالات

من الاباي الي مقرن النيلين – الأمبراطور هيلاسيلاسي

سلسلة مقالات أسبوعية حول شخصيات أثيوبية أحبها السودانيين ، وكان لها تأثير في توطيد دعائم المودة بين الشعبين الشقيقين.

عبدالسميع العمراني -كاتب سوداني 

  الراصد الإثيوبي – السودان

الأثنين 7 ابريل 2025 

الأمبراطور هيلي سيلاسي يعتبر واحدا من أعظم زعماء إثيوبيا ، وهو أخر الاباطرة الذين حكموا إمبراطورية الحبشة ، وهو من مواليد العام 1892 ، ويعتبر من أبرز الشخصيات الأفريقية في القرن العشرين. وقد حكم بلاده وصيا على العرش، ثم إمبراطورا لأكثر من أربعة عقود في الحكم ، ويُنسب إليه تحديث المجتمعات وإرساء دعائم الدولة المركزية الإثيوبيية بشكلها الراهن .
ولد هيلا سيلي سي وكان اسمه حين مولده (تافاري موكونان) ، لكنه غيره الي هيلاسيلاسي عندما أصبح إمبراطورا في 23 يوليو 1892 ، بمدينة إيغارسا غورا التي تبعد نحو 18 ميلا عن مدينة هرر شرق إثيوبيا.
وتعدّ أسرته من نبلاء قومية الأمهرة، حيث كان من أحفاد ساهيلا سيلاسي حاكم مملكة شيوا، وكان والده راس موكونن ابن عم الإمبراطور منليك الثاني، الذي عينه كبير مستشاريه وحاكما لمنطقة هرر.

أما والدته ياشيمبيت علي فكانت من قومية الأورومو، وتوفيت بعد عامين من ميلاده .
كان والد هيلا سيلاسي حريصا على أن يتلقى ابنه تعليما جيدا، فتلقى تعليمه الأول على أيدي رهبان إثيوبيين ، فتعلم اللغة الأمهرية، ودرس اللغة الجعزية المستعملة في الطقوس الدينية بالكنيسة الإثيوبية ، وتعلم كذلك اللغة الفرنسية على يد طبيب من المارتينيك كان مديرا لمستشفى هرر ، قبل أن ينتقل للدراسة في مدرسة يديرها رهبان كاثوليكيون فرنسيون في المنطقة.
وحين خرج والد هيلي سيلاسي لقتال الإيطاليين في الحرب الإيطالية الإثيوبية الأولى عام 1895 ، عهد به إلى الأسقف الفرنسي آبا آندرياس، قائلا: “إذا مت فكن أباه ، إني أعطيك إياه والباقي على الرب”.
ثم تلقى تعليمه على يد الراهب الإثيوبي آبا صامويل، الذي تأثر به هيلا سيلاسي كثيرا في طفولته وأثنى عليه في مذكرات ، وكان قد عايشه طوال 10 سنوات وشاهد موته بعد غرق زورق لم ينج منه إلا الإمبراطور المستقبلي وشخص آخر .
وقد أظهر الفتى هيلي سيلاسي سليل ملوك الحبشة نباهة في مقتبل عمره وجّهت له الأنظار في البلاط الملكي ، فعُهد له بمسؤوليات تقليدية تبعا لذلك ، منها تنصيبه حاكما لإحدى البلدات وهو في ريعان صباه ، ثم تلقى التكوين السياسي التقليدي الذي توفره أعراف البلاط لأبناء سلالتها.
بعد وفاة منليك الثاني عام 1913، تولى الحكم حفيده ليج ياسو ، لكن هذا الإمبراطور واجهته اتهامات باعتناق الإسلام مما أضعف سلطته، وتم خلعه
سنة 1916 ، وتم تنصيب زوديتو ابنة منليك الثاني في منصب الإمبراطورة ،في حين أصبح وقتها هيلا سيلاسي وصيا ووريثا للعرش .
وابتداء من عام 1920 ، تمكن سيلاسي من تعزيز السلطة المركزية للدولة وجمع السلطات تدريجيا في يديه ، وأسهمت إجراءاته في تحسين أوضاع الشعب وزيادة أعداد المتعلمين ، اذ أنشأ المدارس ونظم أجهزة الشرطة وألغى الضرائب الإقطاعية وقلّص امتيازات الطبقات التقليدية.
نجح الأمير في تجسيد آمال الشباب الإثيوبي بأفكاره وخطواته التي عُدت تقدمية ، فتمكن من ضمّ بلاده إلى عصبة الأمم عام 1923 كأول دولة أفريقية تنضم لتلك الهيئة العالمية ، وألغى العبودية، وزار عواصم عالمية في ممارسة لم تعهدها بلاده.

وبعد وفاة الإمبراطورة زوديتو ، نُصب رسميا إمبراطورا علي إثيوبيا في الثاني من نوفمبر 1930، واتخذ لنفسه اللقب الإمبراطوري “هيلي سيلاسي” ومعناه “قوة الثالوث”، أما لقبه الرسمي فكان “الأسد القاهر من سبط يهوذا ، صاحب الجلالة الإمبراطوري ملك الملوك سيد السادة المصطفى من الله”.

وفور اعتلائه العرش رسميا عام 1931، بادر إلى وضع أول دستور مكتوب للبلاد يكرس صلاحيات واسعة تحت يديه
لم ينعم سيلاسي بالعرش طويلا، فقد توجّب عليه التصدي للغزو الإيطالي الذي بدأ عام 1935. ويصف في خطابه الشهير أمام عصبة الأمم كيف حاول بكل السبل تجنب المواجهة مع إيطاليا وتحمل “استفزازات النظام الفاشي”، بيد أنه لم يلبث أن اضطر إلى مغادرة البلاد بعد أن قرر مجلس الوزراء والأمراء ضرورة خروجه إلى المنفى مع اجتياح إيطاليا البلاد، فخرج مع عائلته عبر جيبوتي ثم إلى القدس، قبيل أيام من دخول إيطاليا وحلفائها أديس أبابا وإعلان موسوليني ضمها.

خلال سنوات منفاه، فضلت بريطانيا في البداية الحذر في التعامل معه رغم إقامته على أراضيها، وذلك خوفا من أن يدفع دعمه إيطاليا نحو النظام النازي في ألمانيا. ولكن بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية واتضاح خطوط التحالفات، حصل على دعم قوي من بريطانيا وعاد إلى السودان 1940 ، حيث كوّن جيشا واجتاح إلى جانب القوات البريطانية إثيوبيا عام 1941.

الأمبراطور هيلي سيلاسي والسودان

كان الأمبراطور الإثيوبي مهموما بشكل كبير باستقلال السودان عن بريطانيا ومصر ، لذلك وطد علاقاته مع عدد من السياسيين السودانيين الذين قادوا عملية استقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955 م ، وابرز أصدقائه كان أول رئيس وزراء للسودان الاميرلاي عبدالله خليل ، إذ تشير العديد من الروايات الي ان عبدالله خليل قد تشاور مع الأمبراطور الإثيوبي هيلي سيلاسي بشأن انقلاب 17 نوفمبر 1958 م والذي خطط له عبدالله خليل مع مجموعة من ضباط الجيش، وعلي رأسهم ابراهيم عبود.، فكان ان رفض الأمبراطور هيلي سيلاسي رفضا قاطعا فكرة الانقلاب وحذر منها عبدالله خليل ، ورغم تعهد عبدالله خليل للأمبراطور الإثيوبي الا ان قيادات حزب الأمة قد وقعت وقتها ضحية لحيلة ماكرة من المخابرات المصرية والتي اوهمتهم عبر خطاب مرسل من سفير السودان بالقاهرة ووقع في يد عبدالله خليل قبيل وصوله للجهة المرسل إليها وفي الخطاب تحذير من تحالف بين حزب الشعب والاتحاد وتخطيط للاطاحة في البرلمان بحكومة عبدالله خليل بعد تكوين حكومة ائتلاف بينهما ، فكان ان استعجلت قيادات حزب الأمة علي تسليم السلطة للجيش لقطع الطريق علي الاتحاديين.
وفي رسالة بتاريخ 25 نوفمبر 1958 إلى سلوينلويد، وزير الخارجية البريطاني، ذكر السفير أندروز أن زميله السفير الإثيوبي، ملس عندوم، الذي عاد لتوه من أديس أبابا حيث حضر المباحثات السرية بين خليل والإمبراطور قد أخبره «بأن الأمبراطور لم يترك لدى عبدالله خليل أي شك بأنه لا يرغب في وجود ديكتاتورية عسكرية عربية عند عتبة داره» ، ففي الرابع من نوفمبر من العام 1958 كان عبدالله خليل قد غادر أديس أبابا إلى أسمرا حيث أجريت له فحوصات طبية في المستشفى العسكري الأمريكي هناك.

ويبدو أن السفير البريطاني أندروز كان مهتماً بنتائج تلك الفحوصات. فقد طلب من زميله الأمريكي السفير موس أن يبعث له بنسخة من نتائج تلك الفحوصات عندما يتلقاها من أسمرا. عاد عبدالله خليل إلى الخرطوم في 7 نوفمبر 1958 من أسمرا مباشرة.

ورغم متابعة سفير الأمبراطور التطورات السياسية المتلاحقة في السودان وحرص الأمبراطور علي استمرار الحكم الديمقراطي في السودان الا ان الانقلاب قد وقع في نوفمبر 1958 م ، وقد حرص الرئيس ابراهيم عبود علي توطيد العلاقات السودانية الإثيوبية فكان ان تم التنسيق مع إثيوبيا ومصر في مايو 1963م وتوجت تلك الجهود بقيام منظمة الوحدة الأفريقية.
وقد ظل الأمبراطور هيلاسيلاسي وفيا لعلاقته مع الرئيس ابراهيم عبود ، وحتي بعد سقوط حكومة الفريق ابراهيم عبود العسكرية في أكتوبر 1964 م وعودة الحكم الديمقراطي كانت علاقات الأمبراطور هيلي سيلاسي مميزة مع القيادات السياسية السودانية ، وبعد صعود المشير جعفر محمد نميري الي الحكم بالسودان في مايو 1969 م ، حرص جعفر نميري علي علاقات مميزة مع الأمبراطور هيلي سيلاسي وقد لعب الأمبراطور الإثيوبي دورا كبيرا في إنهاء حرب الجنوب التي بدأت بتمرد فصيل انانيا منذ العام 1955 م.، فكان ان تم توقيع اتفاقية أديس أبابا في 1975 م والتي انهت الحرب في جنوب السودان وتم تعيين قائد التمرد جوزيف لاقو في منصب النائب الثاني لرئيس الجمهورية بالسودان.
كما أن الأمبراطور هيلي سيلاسي كان كثيرا ماجاء للسودان حينما تحدث له أزمة سياسية ، فبعد دخول القوات الإيطالية المعتدية واحتلالها اسمرا وزحفها نحو اديس أبابا ، غادر الأمبراطور الي القدس ومنها الي بريطانيا ولكن حينما أراد العودة لإثيوبيا ومقاومة الاحتلال الإيطالي جاء للسودان ومكث فترة بمدينة مروي مع عائلته وعدد من المستشارين حيث تم التخطيط للمعركة ضد الطليان ، وبالفعل زحف الأمبراطور من الحدود السودانية استطاع هزيمة الطليان وطردهم من إثيوبيا وعاد الأمبراطور الي عرشه.
وعقب الانقلاب الدموي الذي قادته مجموعة من ضباط الجيش الإثيوبي ضد الأمبراطور وقدامهم علي عزله خلال تواجده خارج إثيوبيا في زيارة له
الي بعض دول قارة أمريكا اللاتينية كانت عودة الأمبراطور ايضا عبر السودان ومنها نزل الي اسمرا فكانت بداية عملية اجهاض الانقلاب.
ولكن بعد أيام من عودة الأمبراطور الي عرشه تلقي نبأ حزين بوفاة ابنه وريث العرش.
وكان الأمبراطور تربطه علاقات وثيقة مع عدد من الشخصيات السودانية وابرزهم السيد عبدالرحمن المهدي واسرة الشريف صديق الهندي ، وكذلك الفريق ابراهيم عبود ، فبعد فشل الانقلاب الذي قادته مجموعته من ضباط الجيش الإثيوبي ، جاء الإمبراطور الى السودان في زيارة دولة رسمية بدعوة من الرئيس إبراهيم عبود. وكان في برنامجه زيارة مدينة الأبيض.اذ رافق الرئيس السوداني ابراهيم عبود في تلك الزيارة حيث نظم له مهرجانا حافلا تخلله سباق للهجن ، وهناك لمح هيلي سيلاسي ضابط شرطة من بين المكلفين بحفظ الأمن والنظام و كان الملازم الامدرماني كريم الدين محمد أحمد شديد الشبه بالرأس مكونن ابنه الذي قتل في حادث غامض باديس ابابا ، وقد كان الضابط السوداني شديد الشبه لابن الأمبراطور الراحل وكأنهما توأم ، طلب الأمبراطور من ضابط الشرطة ان يجلس جواره فهرع رجال المراسم الى كريم الدين يستدعونه للمثول بين يدي الإمبراطور، وقد ظنوا أن الأمر لا يعدو أن يكون سلاما أو مصافحة أو ربما يود الاشادة به على حسن الأداء. لكن الإمبراطور طلب منه ، حينما وصل إليه ، بالجلوس الى جانبه. فأُفسح له في المكان، وسط دهشة الحضور وحينما اتخذ هذا الضابط الشاب مكانه قرب الأمبراطور ، مد هيلي سيلاسي يده يتحسس الضابط من شعر رأسه بحنو الأب وعلم الضابط ان الأمبراطور قد تذكر ابنه الراحل بعد أن رائ الشبه الشديد بينه وولي العهد الإثيوبي الراحل ، وبعدها كان ان طلب أن يصحبه كريم الدين الى الخرطوم ومن ثم الى أديس أبابا ، وبعدها بات كريم الدين يتردد على العاصمة الإثيوبية بين الفينة والأخرى فيعامل كأنه الرأس مكونن. وكان يدخل على ملك الملوك في كل وقت وهي ميزة لم تكن متاحة الا لشخصيات قليلة إثيوبيا.
ورغم تقدمه في السن استطاع الأمبراطور هيلي سيلاسي أن يظل فى كرسي الامبراطورية لفترة تجاوزت الأربعين عاما ، اذ بدأها ملكا فى 1928 ، ثم إمبراطورا فى 1930 بعد وفاة ابنة الأمبراطور منيليك الثاني الأميرة الجميلة زوديتو ، وقد كان السودانيين مولعين بشخصية الأمبراطورة الشابة زوديتو وهي أول امرأة في أفريقيا تتولي رئاسة دولة افريقية مستقلة في العصر الحديث ومعترف بها في عصبة الأمم ، وقد نظمت العديد من قصائد الغزل في جمال وقوة شخصية الأميرة زوديتو حتي ان بعض العائلات في الخرطوم قد أطلقت اسمها علي بعض المواليد من البنات، وقد كان هيلي سيلاسي في فترة حكمها يعتبر الأمبراطور الفعلي الا انه تولي الحكم رسميا بعد وفاتها في 1930 م ، وظل إمبراطورا لإثيوبيا الي ان انتهى حكمه 1974 م في انقلاب قاده الجنرال امان عندوم ومجموعة من ضباط تنظيم الدرق داخل الجيش الإثيوبي بقيادة كل من العقيد تفري بنتي والمقدم وقتها منقستو هيلي ماريان ، ورحل فى أغسطس من العام 1975 ، وبرحيله انطوت حقبة الاباطرة بدولة إثيوبيا .

 

،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  (To Type in English, deselect the checkbox. Read more here)
زر الذهاب إلى الأعلى
Lingual Support by India Fascinates